كان ذلك في ليلة بين أوخر ماي و أوائل جوان ، و الزرع قد استحصد و تهالك بعضه على بعض من الذبول و اليبس فلم يعد يقوى على حمل سنبله .
و كان الحاصدون و الحاصدات قد خرجوا عشاء إلى الحقول الذهبية ، و في أيديهم المناجل ، و على أكتافهم الأردية، و هم يوقعون على الطرق العشيبة أهازيج الجذل و الأمل ، فباتت القربة هامدة كأنما ضرب على آذانها الموت فلا تسمع سامرا على مصطبة، و لا نابحا على تل ، فأخذني منها ما يأخذ السائر الوحيد من الغابة الكثيفة أو المقبرة الفسيحة , فخرجت أنشد الفرجة و الأنس في حقل من حقولنا القريبة.
فلما غمرني ليل الحقول ، و ملكني سلطان الطبيعة ، أحسست في قلبي دنيا جديدة لم أحسها من قبل في نهار الناس و لا في ليالي القرية ! فقد كان القمر حينئذ في أوله يرسل أضواءه اللينة الرخية كإشعاع الحلم، شاحبة كإسفار الأمل . فيلون الغيطان و الغدران و الطرق بلون الفضة الكابية و تسمع الجنادب تصر في هشيم البرسيم ، و الصفادع تنق على حفافي الترع و السواقي تنوح على رؤوس الزروع ، و الحاضدات يغنين في مزارع القمح ، و طيور المساء تنغم في أعالي الدوح ، وكلاب الحراسة تنبح على أطراف البيادر ، فيكون من كل أولئك إيقاع موسيقى عجيبة تبعث الروعة في النفس و تلقي الشعر على الخاطر .
عن أحمد الحسن الزيات
و كان الحاصدون و الحاصدات قد خرجوا عشاء إلى الحقول الذهبية ، و في أيديهم المناجل ، و على أكتافهم الأردية، و هم يوقعون على الطرق العشيبة أهازيج الجذل و الأمل ، فباتت القربة هامدة كأنما ضرب على آذانها الموت فلا تسمع سامرا على مصطبة، و لا نابحا على تل ، فأخذني منها ما يأخذ السائر الوحيد من الغابة الكثيفة أو المقبرة الفسيحة , فخرجت أنشد الفرجة و الأنس في حقل من حقولنا القريبة.
فلما غمرني ليل الحقول ، و ملكني سلطان الطبيعة ، أحسست في قلبي دنيا جديدة لم أحسها من قبل في نهار الناس و لا في ليالي القرية ! فقد كان القمر حينئذ في أوله يرسل أضواءه اللينة الرخية كإشعاع الحلم، شاحبة كإسفار الأمل . فيلون الغيطان و الغدران و الطرق بلون الفضة الكابية و تسمع الجنادب تصر في هشيم البرسيم ، و الصفادع تنق على حفافي الترع و السواقي تنوح على رؤوس الزروع ، و الحاضدات يغنين في مزارع القمح ، و طيور المساء تنغم في أعالي الدوح ، وكلاب الحراسة تنبح على أطراف البيادر ، فيكون من كل أولئك إيقاع موسيقى عجيبة تبعث الروعة في النفس و تلقي الشعر على الخاطر .
عن أحمد الحسن الزيات